أوشكت على إتمام
عامى الستين فى هذا الكون ، أكانت حياتى بائسة أم سعيدة ؟ كانت مزيجا بين هذا وذاك
، لكن الجزء البائس طغى على السعيد حتى نسيت معنى ومسببات السعادة ، أفنيت حياتى
فى هذا المكان الخانق الذى لايدخله نور ، أزيل الغبار القابع على تلك الكتل
الورقية التى نادرا مايرجع إليها أحد من العاملين ، ألبي احتياجاتهم من المأكولات
والمشروبات ، أضعت الساعات والأيام والسنين فى هذه الترهات ، ظننت فى بداية عملى
فى أرشيف تلك الصحيفة بأنها وظيفة ذات أهمية عظمى ، فهى مخزن المعلومات والأسرار
للمؤسسة ، هى الكنز العلمى الذى لايقدر بثمن ، أو هكذا أقنعونى ، وكنت ساذجا لأقصى
الدرجات فى الإيمان بحديثهم ، وكيف لا أكون ساذجا ؟ فأنا عديم الثقافة خريج المعهد
الصناعى ، الذى يتساوى مع الأمىّ ( فى وطننا ) ، تشبثت بأول فرصة للعمل ، حتى
أستطع التقدم لخطبة الفتاة التى أحببتها مذ رأيتها للمرة الأولى فى المعهد ، وأشهد
الله بأنها كانت العامل الأساسي فى الجزء السعيد من حياتى ، لكنها كانت كذلك
العامل الأكبر فى تعاستي عندما تركتني وحيدا ورحلت نتيجة إصابتها بمرض لعين ، ذهبت
منذ مايقارب الثلاثة أعوام ، لم يرزقنا الله بأبناء ، وأحمده كثيرا على ذلك ،
فمرتبي كان بالكاد يكفيني وزوجتي ، ماذا كنت سأفعل إذا مرضوا ؟ إذا طلبوا شيئا
لابد منه ؟ كيف كنت سأعلّمهم ؟
استفاق الرجل من
غفلته المؤقتة التى تذكر فيها أبرز لقطات حياته ، عدّل من جلسته على أرضية المكان
الذى أعطاه كل مايملك وهو عُمره ، وها قد أوشكت النهاية ، يتبقى له عام واحد على
الإحالة للمعاش ، لكنه لن يكمله .
فليلعن الله تلك
الاقتصاديات الرأسمالية التى تحطّم البشر قبل المؤسسات ، فببضع ملايين من الجنيهات
يمكن شراء وطن من خلال السيطرة على مؤسساته ومبانيه ، كيف يمكن للمسئولين بيع مبني
عريق كمبنى هذه الصحيفة وتسريح العاملين به دون مقابل ؟ تلك الصحيفة الشاهدة على
تاريخ مصر الحديث التى لطالما قاومت النظم المستبدة ، وساهمت فى طرد الاستعمار .
أهو الاستعمار مرة أخرى ؟ ولكن فى شكله الاقتصادى ؟!
يقومون بإغلاق الصحيفة مقابل حفنة ملايين من
الجنيهات نظير بيع مبناها المطل على نهر النيل تمهيدا لتحويله إلى فندق من فئة
الخمس نجوم ، مبررين ذلك بتوقف الصحيفة عن الصدور ورقيا وتوقف الناس عن شرائها ،
وعدم القدرة على دفع مرتبات العاملين بها .
تم تجريد المكان
من كافة محتوياته ، ويجري الإعداد لهدمه تدريجيا ، يفترض بي أن أنهض وأنفض عني
أحلامي ، وأذهب إلى منزلي فى الحى العشوائي الفلاني ، لأكمل طريق تعاستي .
ماذا عساى أن
أفعل ؟ لمن أذهب ؟ لمن أكمل الحياة ؟ لماذا تجلّدت طوال الثلاث سنوات الأتعس
بحياتي ؟ لا أهل ، لا هدف ، لا داع للعيش ، "لا ، لن أذهب ، سأظل فى المبني
حتى يُهدم ، سأشهد على انهيار المبني ، وانهيار التاريخ ، وحياتى " .
صعد الرجل الستيني إلى قمة
المبني ، ألقى نظرة أخيرة على منظر النيل المبهج ، لم يكن له فى ذلك الكون سواه
وزوجته ، يشكو إليهم آلامه ، يخبرهم فى نهاية يومه بما أسعده ، وما أحزنه ،
بأحلامه ، بما عاش لأجله ، وتمنى تطويره . وأسفل العقار وجد معدات الهدم تستعد
لبدء عملها . "أشرفت على لقاء ربي ، أتمنى أن يغفر لي ، وألا يعتبر ما سأفعله
انتحارا ، وأن أري زوجتى على خير ، فاللهم أبدلنا تعاستنا فى الدنيا سعادة فى
الآخرة " ..........
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق